الجمع بين حديثين ظاهرهما التعارض

ع َنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: 


"لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا". قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ. قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا". 


رواه ابن ماجه بسند صحيح.


عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: 


"كُلُّ أُمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرِينَ، وإنَّ مِنَ المُجاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ باللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وقدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عليه، فَيَقُولَ: يا فُلانُ، عَمِلْتُ البارِحَةَ كَذا وكَذا، وقدْ باتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عنْه".


رواه البخاري ومسلم.


قلت: والجمع بين الحديثين، أن الأول كان من عادته انتهاك حُرُمات الله تعالى إذا خلا بها، فهو صاحب إصرار على الذنب، لا يندم ولا يتحسّر، ولا يتق الله تعالى أبدا. وهذا الصنف ينطبق عليهم ما رواه عبدالله في زوائد الزهد لأبيه، عن أبي العالية قال : "يأتي على الناس زمان تخرب صدورهم من القرآن ولا يجدون له حلاوة ولا لذاذة إن قصروا عما أمروا به قالوا : إن الله غفور رحيم ، وإن عملوا بما نهوا عنه قالوا : سيغفر لنا إنا لم نشرك بالله شيئا ، أمرهم كله طمع ليس معه صدق يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب ، أفضلهم في دينه المداهن" .

وأما الثاني، فهو يواقع الذنب بين الفينة والأخرى، يجتهد في عِصْمَة نفسه أحياناً كثيرة، وتغلبه نفسه أحياناً، فهذا عليه أن يستر نفسه ويسارع للتوبة، وأن لا يخبر أحداً بما جنته نفسه، ولو على سبيل التحسُّر والتندُمّ.

والنبي صلى الله عليه وسلم، تكلم في كل موضِعٍ بما يناسبه من الأحكام.

القرآن والسنة حجّة في كل زمان ومكان

القرآن والسنة حجّة في كلّ زمان ومكان.

وذلك أن الله تبارك وتعالى، جعل القرآن تبياناً لكل شيء.

فقال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ءَایَـٰتِۭ بَیِّنَـٰت وَمَا یَكۡفُرُ بِهَاۤ إِلَّا ٱلۡفَـٰسِقُونَ﴾ [البقرة ٩٩]

وقال تعالى: ﴿وَنَزَّلۡنَا عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ تِبۡیَـٰنا لِّكُلِّ شَیۡء وَهُدى وَرَحۡمَة وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِینَ﴾ [النحل ٨٩]

وقوله تعالى: (لكل شيء) أي: لكل شيء يخصّ الدين. من خلق هذا الكون، ولماذا خلقه، وما هو المطلوب من هذا الخلق، وما هو مصير المخلوقات.

في آيات كثيرة يصف الله تبارك وتعالى كتابه وآياته بأنها بيان.

فالقرآن بيان، والنبي صلى الله عليه وسلم مُبيِّن.

قال تعالى: ﴿بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَٱلزُّبُرِۗ وَأَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَیۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ یَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل ٤٤]

وقال تعالى: ﴿وَمَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ إِلَّا لِتُبَیِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِی ٱخۡتَلَفُوا۟ فِیهِ وَهُدى وَرَحۡمَة لِّقَوۡم یُؤۡمِنُونَ﴾ [النحل ٦٤]

فالنبي يبيّن للناس عن ربهم ما نُزِّل إليهم، بمعنى يقرأه عليهم. 

ويبيّنه لهم، بمعنى أنه يشرح لهم كيفية إقامة العبادات المفروضة عليهم. 

وقد بيّن ربّنا عز وجل، مسائل العقيدة خير بيان، في توحيد الملك والخلق والأمر والتدبير والعبادة.

وما سكت الله تبارك وتعالى عن تفصيله وبيانه من مسائل العقيدة، فإنما لكون العقل الصحيح والفطرة السليمة قد جرت ببيانه، فلم يعد في حاجة إلى بيان أخر.

مثال ذلك: عندما يوبخ الله تبارك وتعالى المشركين في دعائهم غيره، ثم لا يفصّل سبحانه وتعالى لنا، الدعاء الذي يجب ألا يصرف إلّا له سبحانه، والدعاء الذي يجوز صرفه لغيره، فهذا لكون العقل الصحيح والفطرة السليمة قد جرت ببيانه، فلا يحتاج إلى بيانٍ من الله تعالى.

وأما العبادات والمعاملات وغير ذلك من الشرائع، فقد بيّن الله تعالى ما افترضه على عباده من العبادات، وما أحلّه وما حرّمه عليهم من المعاملات، بإجمال، وأوكل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم شرح ذلك وبيان كيفيّته.

ثم تكفّل عز وجل بحفظ القرآن الكريم.

فقال تعالى: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ﴾ [الحجر ٩]

وهذا بدليل النقل.

وأما بدليل العقل، فلأن القرآن هو خاتم الكتب، كما أن النبي محمد هو خاتم الرُسُل، 

فلو لم يحفظ الله تعالى القرآن الكريم، لحتاج الناس إلى نبيٍّ يُجدِّد لهم نصّ القرآن، أو يأتي لهم بقرآن أخر، بنصٍّ أخر، 

وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل، فلن يكون هناك نبي أو رسول بعده، فلن يكون هناك نبيٌّ يُجدّد لنا نصّ القرآن إذا ما تعرّض نصّه للتحريف والتبديل والزيادة والنقصان، أو يأتي بقرآن جديد بنصّ جديد، فلزم هنا أن يكون القرآن محفوظاً، ليكون حجّة على الخلق إلى قيام الساعة.

وما حفظ الله تعالى القرآن الكريم، وما قيّظ للسُنَّة النبويّة من يجمعها، ويغربلها، إلّا لتكون حجّة على الناس في كلّ زمان ومكان.

ولو لم يكن القرآن والسنة، حجة في كل زمان ومكان، لكان أحق الناس بالعذر، وألا يكون القرآن والسنّة حجة عليهم، هم مشركو قريشٍ والعرب.

فإن لم يكن لهؤلاء عذرٌ بعد القرآن والسنّة، فليس لأحدٍ بعدهم عذر، بعد القرآن والسنّة.

والقرآن والسنة، زيادة حجّة في المسائل الثابتة بالعقل الصحيح والفِطرة السليمة.

أقول: زيادة حجّة، وإلا فحجة العقل والفطرة قائمة في هذه المسائل من دون القرآن والسنة.

فالمشرك الشرك الأكبر سواء قرأ القرآن أو لم يقرأه، وسواء سمع بالإسلام أو لم يسمع به، فقد قامت عليه الحجة بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، وبآيات الله في الآفاق وفي نفسه، وبالميثاق الأول، الذي أخذه الله تبارك وتعالى على بني آدم قبل أن يخلق أجسادهم.

قد يقول البعض: الميثاق الأول نسيَه الناس، والله بعث الرسل ليذكروا الناس الميثاق الأول، فكيف يكون حجة هنا؟

فالجواب على ذلك: لولا أن الميثاق الأول ليس حجة على الناس، لما أخذه الله تبارك وتعالى على عباده قبل أن يخلقهم، لأن الله حكيم، ولا يفعل شيئاً إلا لحكمة، فمحالٌ أن نقول بأن الله تعالى أخذ الميثاق الأول على خلقه هكذا عبثاً، لأنه لو لم يكن حجة على الخلق، لكان أخذه عليهم أوّل مرة عبث، والله يتعالى عن ذلك سبحانه. 

ولكن إذا سمع المشرك بالقرآن والسنة، ثم أعرض عنها، ولم يأبه بها، ولهى عنها، فقد ازدادت حجج الله تعالى عليه.

وهذا في المشرك الذي لا يعرف الإسلام ولم يسمع به، أو لا ينتسب إلى الإسلام، ولكنه يسمع به.

أما الصوفي المشرك والرافضي المشرك، فهذا قد سمع بالقرآن والسنة، فقد ازدادت حجج الله عليه.

ولا يعذر المشرك في هذا الباب بأي حال من الأحوال، حتى لو كان أعجميّاً أو أمّيّاً.

لأنا قلنا بأن الحجة قائمة عليه بدون كتاب أو سنّة.

فلا عُذر له في أعجميَّته ولا في أُمِّيَتِهِ.

وهو مطالب بأن يُعْمِل فِكره وعقله، ولا يكون مقلّداً جامداً، ولا إمعة هائماً.

فإن الله تعالى وهب عباده أدمغة يفكِّرون بها وقلوباً يعقلون بها، فمن عطّل فكره وعقله، فهو الجاني على نفسه.

وهنا سؤال: ما حال الرجل أو المرأة، اللذين لم يسمعا بالإسلام، ولا بالقرآن والسنة؟

فالجواب: مثل هذا النوع من الناس، مطالبون يإعمال أدمغتهم وقلوبهم، وفِكرهم وعقولهم، وما فطرهم الله عليه من الإيمان بوجوده سبحانه، وأنه المتفرد بالملك والخلق والأمر والتدبير، وأنه الواحد الذي يجب أن تصرف له العبادة الشرعية من الدعاء وغيره.

وعندي أن الرجل أو المرأة، اللذين لم يبلغهما الإسلام، ولم يسمعا به، ولكنهما أعملا فكرهما وعقولهما، وما فطرهم الله عليه من الإيمان بالله وبتفرده بالملك والخلق والأمر والتدبير، وصرفا العبادة له وحده، من الدعاء وغيره، وإن لم يعرفا الإسلام ولا شرائعه، أنهم من الناجين يوم القيامة بإذن الله تعالى، وأنهما مسلمان بما معهما من الإسلام والإيمان بحول الله وقوته.

وذلك قياساً على زيد بن نفيل العدوي القرشي رحمه الله.

ولكن القرآن والسنة، حجة في المسائل الخبريّة، التي لا يمكن معرفتها إلا بالخبر عن الله أو عن رسوله.

وهذا لا يقع إلا للمسلمين.

لأنهم مطالبون بتعلّم أمور دينهم، فمن قصَّر في ذلك، فهو الجاني على نفسه.

فإن كان قارئا لزمه قراءة القرآن والسنة.

ومن لم يكن قارئاً لزمه سماع القرآن والسنة.

وإن كان أعجميَّاً لزمه أن يبحث عمّن يترجم له القرآن والسنة ترجمة صحيحة.

وذلك حتى يعرفوا دينهم.

وليس لأحد عذر في هذا الأمر سوى ثلاثة:

الأول: المسلم الأعجمي، الذي لم يجد من يُترجم له القرآن والسنة، ترجمة صحيحة. 

فإن وجد من يُترجم له القرآن والسنة ترجمة صحيحة، فقد سقط عذره.

ما لم يكن هذا المترجم خائناً، فيترجم له غير القرآن والسنة، أو يترجم له ما يشاء منهما، ويدع ما يشاء، فهؤلاء معذورون، والوزر عليه، ما لم يطيعوه في الشرك الأكبر، لأنهم عندئذ، مطالبون بإعمال أفكارهم وعقولهم.

والثاني: المسلم الأمي، الذي لم يجد من يقرأ له القرآن والسنة، كمن يعيش في مكان بعيد، وكل من حوله أمّيون مثله، ولا يحفظون القرآن والسنة.

فإن وجد من يقرأ عليهم القرآن والسنة، فقد سقط عذرهم.

ما لم يكن هذا القارئ خائناً، فيتلوا عليهم غير القرآن والسنة، أو يملي لهم ما يشاء منه، ويدع ما يشاء، فهؤلاء معذورون، والوزر عليه، ما لم يطيعوه في الشرك الأكبر، لأنهم عندئذ، مطالبون بإعمال أفكارهم وعقولهم.

وهذا مثل من يخبر الناس بخبر واقعة من الوقائع، فيخلط لهم الصدق بالكذب، في شأن هذه الوقعة، فقد يضع لهم ويزيد لهم في خبر الواقعة، ما لا يقبله العقل، فإن قبلوا ذلك منه، كان اللوم عليهم، ولنُسِب ذلك إلى قِلّة عقولهم، وبلادة فهومهم، واعتُبِر ذلك قدحاً فيهم، ومذمة لهم.

لذلك عندما يثق الناس في شخص من الأشخاص، في شأن دينهم، فيأتي لهم بما لا يقبله عقل صحيح ولا فطرة سليمة، ثم تابعوه عليه، ووافقوه عليه، فهذا دليل على قلّة عقولهم، وبلادة فهومهم، وكان اللوم واقع عليهم، لأن ما قبلوه منه، لا يقبله عقل صحيح ولا فطرة سليمة.

والثالث: الأعمى الأصم، الذي لا يرى ولا يسمع، ولا يمكن تعليمه بوجه من الوجوه، وعادة هذا النوع من البشر، يكون مسلماً بالفطرة، وحكمه حكم المولود الذي مات قبل أن يصل إلى سنٍ يعرب فيه عن نفسه،

لأنه باقٍ على خِلقتِه، لم يتمكن الكفّار من تلقينه كفرهم، ولا تمكن المسلمون من تلقينه شرائع الإسلام التي افترضها الله عليه.

والرابع: الأعجمي أو الأمّي، الذي بلغه الخبر، وتليت عليه آيات القرآن وأحاديث النبي، ولكنه شك في صدق المُخبِر، وخشي أن يكون كذَبَ عليه،

فهذا له حالان:

الأولى: أن يهتم لهذا الأمر، ويجتهد في التثبت من صحته، فهذا أرجوا أن يكون معفوّاً عنه، إن هلك قبل أن يتحقق من صحة ما أُخبِر به، لأنه لم يعرض ولم يهمل ولم يشتغل عن البحث عن الحق.

والثاني: ألا يهتم بهذا الأمر، ولا يجتهد في البحث عن صحته، بل يعرض ويهمل وينشغل عنه، فهذا غير معفوٍّ عنه، لأنه معرض مهمل لا يهتم بأمر دينه.

وهناك حالة رابعة، وهي: أن تقع مخالفة المسلم والمسلمة، في أمر يشتبه عليهم حكمه، كون ظاهر الأدلة قد يكون موافقاً لما وقعوا فيه من مخالفة، فإن كان خطؤهم في هذه المسألة ليس عن إعراض وتكبّر وتعمّد وإصرار، فهؤلاء نرجو أن يعفو الله عنهم، وأما إن أعرضوا عن الحق، وهم عالمون به، موقنون بخطئهم فيه، فهؤلاء حكمهم حكم المكّذب لله ولرسوله، والمُكذّب لله ولرسوله كافر.

وكلّ الناس مطالبون بمعرفة الإسلام وتعلُّم شرائعه، كل بحسبه، وجهده وطاقته.

لو لم يقدر من معرفة الإسلام وشرائعه، إلا على معرفة توحيد الربوبية والألوهية.

وهذا أمرٌ مُسَلَّمٌ به.

ذلك أن الإنسان لا ينتظر من أحدٍ أن يجلب له رزقه، بل يسعى هو في طلب الرزق، وتعلّم صنعة يكسب منها رزقه. فكيف يهتمّ بأمر رزقه ولا يهتم بأمر دينه؟!

ولو أن شخصاً أهمل في طلب الرزق أو تعلّم صنعة يكسب منها رزقه، للامه الناس على ما هو فيه من فقر وحاجة، ولنسبوا ذلك إلى تقصيره في طلب الرزق، وتعلّم صنعة يكسب منها رزقه.

وإن لام الناس من يحيط بهذا الشخص على ما عليه هذا الشخص من فقر وحاجة، فإنما يلومونهم على أنهم لم يقوموا بتحفيزه على طلب الرزق وتعلم صنعة يكسب منها رزقه.

ولكن عندما يكون الأمر متعلِّقاً بالدين وشرائعه، تجد الشيطان يقلب الأمر عند الناس رأساً على عقِب، فتجدهم يتوسّعون توسّعاً فاحشاً في الأعذار.

ويحمّلون العلماء والدعاة كلّ اللوم، على عدم دعوتهم للناس وتحفيزهم على اتباع الحق، وتعليمهم أمور دينهم.

ولو سُئِل كافرٌ أو مبتدع أو جاهل، عن سبب وقوعه في الكفر أو البِدعة أو الجهل، لقال: لم يأتني داعيةٌ إلى الحق أو عالمٌ يُعلّمني خطئي فيما خالفت فيه، أو يعلّمني أمور ديني!

وهو في الحقيقة، إنما يبحث عمن يتحمّل عنه، وزر تقصيره في طلب الحق والعلم.

أو يكون المتصدر للتعليم في بلده كفّاراً أو مبتدعة، فيقول: اتبعت علماء بلدي!

حسناً أوليس لك عقل تميّز به بين الصح والخطأ والحق والباطل والصدق والكذب!

ولكنه كما قال أحد كبار السن من بادية نجد: ما فيه شي اسمه فلان خرّبني، أنت حمار ولقيت من يسوقك.

وخرّبني في العاميّة النجديّة تعني: أفسدني.

ولقِيت، أي: وجدتَ.

فهذا الأعرابي النجدي، لما كان ذهنه نقيّاً، ولم يتلقى تلك الأعذار السخيفة ممن ينتسب إلى العِلم والعلماء، أبان عن الحق، وأن هناك ما يدرك حسنه أو قبحه بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، ولذلك فإن اللوم يقع على عاتق المقلِّد والمتابع، كونه رضي بما أملاه عليه المُقلَّد والمتبوع، معطِّلاً فكره وعقله.

فالحقّ أن يُحمَّل الكافر أو المبتدع أو الجاهل، اللوم كاملاً على ما هو عليه من كفرٍ أو بدعة أو جهل.

إذ كان عليه أن يسارع في طلب الإسلام، ومعرفة الحق، ومعرفة شرائع الإسلام، ويهتم لذلك كما يهتم لرزقه. 

ويُحمَّل العلماء وطلبة العِلم، اللوم إذا قصَّروا في واجبهم في دعوة الناس إلى الحق، وتنبيههم، وتذكيرهم، وتحفيزهم على اتباع الحق.

فكلا الطرفين مُلامٌ إذا قصَّر في القيام بواجبه الديني.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله أعلم وأحكم.

تأويل حديث: "وأنت الباطن فليس دونك شيء"

 #شرح_حديث

تأويل حديث: " اللهمّ أنتَ الأوّلُ فليسَ قبلكَ شيء ، وأنتَ الآخرُ فليسَ بعدكَ شيء ، وأنتَ الظاهرُ فليسَ فوقكَ شيء ، وأنت الباطنُ فليسَ دونكَ شيء" اهـ
فقوله: "أنت الأول فليس قبلك شيء": أي أنت أول الأشياء، فليس هناك شيء وجد قبل الله أو مع الله. وهذا كناية عن أزليّته.
وقوله: "وأنت الأخر فليس بعدك شيء": أي: ليس يبقى بعدك شيء، لو كانت كل الاشياء تفنى، وهذا كناية عن أبديته. وأنه الحي الذي لا يموت.
وقوله: "وأنت الظاهر فليس فوقك شيء"، الظاهر من الظهور، وهو البروز، والمراد به هنا العلوّ، لأنه قال: "فليس فوقك شيء" أي: لا يعلوك شيء، والنفي هنا مطلق غير مقيّد ولا مخصّص، فدل على أن المراد بالظهور هنا ظهور الذات والقدر والقهر والغلبة والسلطان.
وقوله: "وأنت الباطن فليس دونك شيء": اي: لا يخفى عليك شيء من أمور عبادك، والعرب تقول: ليس دون فلانٍ سِرّ، اي: لا يخفى عليه سِرّ. وقوله: "الباطن". أي: من الاستبطان، وهو الدخول في باطن الشيء، والدخول هنا بمعنى دخول الله تعالى بعلمه في بواطن الأشياء، فلا يخفى عليه منها شيء.
وليس معناه: ليس تحته شيء. فباطن الشيء، هو داخله، فالله داخل بين الأشياء بعلمه، وأما التحت، فهو السّفّل، فبين الكلمتين فرق كبير، فتنبه.

مسألة رضاع الكبير

 ومختصر الحديث: أن أبا حذيفة بن عتبة، تزوج في الجاهلية امرأتان، ثبيتة بنت يعار الأوسيّة، من أوس المدينة، وسهلة بنت سهيل العامريّة القرشيّة، وقد أخطأ من نسب سهلة إلى الأنصار، فهي قرشيّة وليست أنصاريّة.

وكان لثبيتة غلام صغير، يدعى سالم، وهو من سبي فارس، من أهل اصطخر، فكان سالم يدخل وهو صغير على سيدته وعلى سيده أبو حذيفة، وعلى سهلة بنت سهيلـ يخدمهم، وكان يدخل على ثبيتة وسهلة وهُنّ فُضُل، أي: متبذلات في لباسهن، لأنه صغير، ولم يكن يرينه إلا مثل ولدهن، لما يقوم به عليهن من الخدمة، وكان ذا خُلُق وحياء، فأحبه أبو حذيفة وزوجاته حبّاً شديداً، فأعتقته ثبيتة سائبة، يتولّى من شاء، فبقي معهم، فتبنّاه أبو حذيفة وجعله ابناً له، فكان يدعى: سالم بن أبي حذيفة، واسلم سالم مع أبي حذيفة، وهاجر إلى المدينة، وكان قد بلغ الخامسة عشر أو أكثر من ذلك، وزوجه أبو حذيفة من ابنة أخيه: فاطمة بنت الوليد بن عتبة، ويظهر أن زواجه منها وقع قبل السنة الخامسة للهجرة، فلما نزلت آية تحريم التبني، ترك الانتساب إلى أبي حذيفة، وصار أخاً له في الإسلام، ويظهر من الأخبار، أن أبا حذيفة طلّق ثبيتة، فبقي سالم مع أبي حذيفة، أبوه بالتبنّي ومع سهيلة، ولما كان سالم منذ صغر سِنِّه، يدخل على زوجات أبي حذيفة وهُنّ فًضُل، كان قد تعوّد على ذلك، فلم يكن سالم يستنكر أن يدخل على سهلة وهي فُضُل، ولا كانت هي تستنكر ذلك، لأنها قد تعودت عليه منذ صغره، ولم تكن تراه إلا ابناً لها. فرأت كراهة ذلك في نفس أبي حذيفة، فذهبت تستفتي النبي صلى الله عليه وسلم في شأنه، وتقول له: "كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ، وَأَنَا فُضُلٌ وَلَيْسَ لَنَا إِلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ، فَمَاذَا تَرَى فِي شَأْنِهِ؟" رواه مالك في الموطأ، فقال لها النبي: "أرضعيه تحرمي عليه، ويذهب ما في نفس أبي حذيفة". قالت: وكيف أرضعه؟ وهو رجل كبير. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "قد علمت أنه رجل كبير". فأرضعته، فذهب ما في نفس أبي حذيفة، من شأن دخول سالم عليها. (رواه مالك في الموطأ ومسلم في صحيحه وغيرهما).

قلت: وقد أجمع الصحابة وأمهات المؤمنين على أن هذه الرضاعة رُخصة لسهلة بنت سهيل، من دون الناس، وان الرضاع الذي يحرم، ما كان في الحولين فقط. (رواه مالك في الموطأ وغيره)

عن زينب بنت أبي سلمة أخبرته؛ أن أمها أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقول: أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة. وقلن لعائشة: والله! مانرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة. فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة. ولا رائينا. (رواه مسلم).

إلّا عائشة رضي الله عنها، فإنها اعتبرت ذلك رخصة لجميع الناس، روى مالك في موطأه عن عروة أنه قال: "فَأَخَذَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَنْ كَانَتْ تُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنَ الرِّجَالِ، فَكَانَتْ تَأْمُرُ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَبَنَاتِ أَخِيهَا أَنْ يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبَّتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنَ الرِّجَالِ".

قلت: ولم تكن عائشة رضي الله عنها لتجرأ على أن ترسل رجالاً كباراً لأخواتها، وإن كانت ترى في ذلك رخصة، لأن نساء العرب لم يكن يجرؤن على ارضاع الكبير وهن في الجاهلية، فكيف في الإسلام، لذلك كانت عائشة ترسل صبية يافعين لأخواتها ليرضعنهم، والصبي اليافع هو ما بين ثلاث سنين إلى اربعة عشر سنة، أي: لم يبلغ سِنّ الاحتلام.

روى مسلم في صحيحه، عن زينب بنت أم سلمة. قالت: قالت أم سلمة لعائشة: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي. قال: فقالت عائشة: أما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة؟.

فالشاهد من هذا الحديث، هو قولها: "الغلام الأيفع" فدلّ هذا على أنها إنما ترسل أغيلمة يافعين، لا رجالاً محتلمين.

والقول الفصل في هذه المسألة، هو قول جميع الصحابة وجمهور أمهات المؤمنين، وهو أن رضاعة الكبير رخصة لسهلة بنت سهيل، وأن الرضاع الذي يحرم هو ما كان في الحولين، حتى أن سالم بن عبدالله بن عمر، لم يؤذن له في الدخول على عائشة، مع أنها أرسلته لأخواتها لإرضاعه، لأنه لم يتم الرضاعة التي يحرم بها الصبي، مع أنه رضع من أم كلثوم في الحولين.

روى مالك في موطأه عن نافع، أن سالم بن عبد الله بن عمر، أخبره أن عائشة أم المؤمنين أرسلت به، وهو يرضع إلى أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، فقالت: «أرضعيه عشر رضعات حتى يدخل علي»، قال سالم فأرضعتني أم كلثوم ثلاث رضعات، ثم مرضت، فلم ترضعني غير ثلاث رضعات، فلم أكن أدخل على عائشة من أجل أن أم كلثوم لم تتم لي عشر رضعات.

فعمل الناس من زمن الصحابة وما بعده على أن رضاع الكبير رخصة لسهيلة بنت سهل، وأن الرضاع الذي يحرم هو ما كان في الحولين لجميع الناس.

وذهب بعض أهل العِلم، إلى أن هذه الرخصة تشمل كلّ من كانت حالتهم مثل حالة سهلة وسالم، بحيث اشترطوا لذلك: أن يكون الراضع، قد تربى منذ صغره في بيت المُرضِع، بحيث يكون وكأنه ابنٌ لها، وأن يكون لا بد من دخوله عليها، للخدمة، وأن لا يكون لهم إلّا بيتٌ واحدٌ يتشاركونه.

والله وحده أعلم وأحكم.

مسألة شُرب أبوال الإبل للتداوي

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: - قَدِمَ علَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَفَرٌ مِن عُكْلٍ، فأسْلَمُوا، فَاجْتَوَوْا المَدِينَةَ فأمَرَهُمْ أنْ يَأْتُوا إبِلَ الصَّدَقَةِ، فَيَشْرَبُوا مِن أبْوَالِهَا وأَلْبَانِهَا فَفَعَلُوا فَصَحُّوا فَارْتَدُّوا وقَتَلُوا رُعَاتَهَا، واسْتَاقُوا الإبِلَ، فَبَعَثَ في آثَارِهِمْ، فَأُتِيَ بهِمْ فَقَطَعَ أيْدِيَهُمْ وأَرْجُلَهُمْ وسَمَلَ أعْيُنَهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَحْسِمْهُمْ حتَّى مَاتُوا.

وفي رواية: " ثُمَّ أُلْقُوا في الحَرَّةِ، يَسْتَسْقُونَ فَما سُقُوا حتّى ماتُوا".

قوله: "عًكْل" وهم حيُّ من العرب، وهم بطن من الرَباب من تميم، وكانت منازلهم شرق نجد مما يلي العارض، وفي رواية: "من عُرينة" وعرينة بطن من بَجيلَة، وكانت منازل بَجيلة بنواحي بيشة، إلا أن بني عُرينة هؤلاء، كانوا قد خرجوا من قومهم في الجاهلية، وحالفوا بني عامر بن صعصعة من هوازن، وكانوا يقيمون مع بني عامر بعالية نجد، محادّين لبني تميم، وأكثر الروايات على أن هؤلاء الرهط من عُكْل، وليسوا من عُرينة.

وقوله: "فاجتووا" أي: لم يناسبهم هوائها، فمرضوا بها، وأصابتهم الحُمَّى.

وقوله: "فاشربوا من أبوالها وألبانها" البعض يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ هذا الدواء بوحي من الله تعالى، ولكن الصواب أنه إنما أخذ ذلك مما تعارف عليه حكماء العرب قديماً، حيث أنهم اكتشفوا أن أبوال الإبل وألبانها تفيد من أمراض عديدة، من خلال التجربة والبرهان، ذلك أن الإبل، كانت تأكل من جميع أنواع الأعشاب، فيكون في الأعشاب من الدواء ما يجتمع في أبوال الإبل وألبانها، إضافة إلى ما رُكِّبَت عليه أجساد الإبل، من قوّة المناعة، فإن هذا كله، يؤثَِر في ألبانها وابوالها، فيكون فيها شفاء للعديد من الأمراض. لذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم العُكْلِيِّين، بالدواء الذي تعارف عليه حكماء العرب بالتجربة والبرهان. وليس هذا خاصّاً بأبوال الإبل، بل حتى أبوال البقر والغنم.

وهذا ما أثبته الأطباء قديماً وحديثاً.

 قال ابن سينا في كتاب القانون في الطب في علاج الاستسقاء: "وأنفعُ الأبوال، بَوْل الجمل الأعرابى، وهو النجيب.. " اهـ

وقال: "وبول الجمل شديد النفع من الخشم ويفتح سدد المصفاة بقوة شديدة جداً .." اهـ

وقال: "وبول الجمل ينفع في الاستسقاء وصلابة الطحال لا سيما مع لبن اللقاح" اهـ

وقال: ".. وربما سقوا من ألبان الإبل الأعرابية وأبوالها وخصوصاً في الأبدان الجاسية القوية وخصوصاً إذا أزمن سوء القنية وكاد يصير استسقاء. وربما سقوا أوقيتين من أبوال الإبل من سكنجبين إلى نصف مثقال أو أكثر وكذلك في أبوال المعز" اهـ

وقال: "وقد يخلط بأبوال الإبل وقد يقتصر عليها طعاماً وشراباً وقد يضاف إليها طعام غيرها". اهـ

وقال في علاج أمراض الطحال: "يؤخذ منه كل يوم درهمان ويتبع ببول والانتفاع بألبان الإبل وأبوالها شديداً جداً". اهـ 

وقال: "يؤخذ منه ملعقة ببول الإبل أو بول البقر أو قشور الكبر أربعة دراهم راوند طويل درهمين بزر الفنجنكشت والفلفل من كل واحد ستة دراهم يتخذ منه اقراص". اهـ

أما حديثاً، فقد قام عدّة أطباء عرب باكتشاف فوائد علاجية في أبوال الإبل وألبانها، عبر دراسات استمرت عدة سنوات، حيث أكتشفوا أن لأبوال الإبل خواص قد تكون مفيدة في علاج مرض السرطان، أجارنا الله وإياكم من كل سوء، وهم: 

أ.د. أحمد عبدالله أحمداني، عميد كليّة المختبرات الطبيّة بجامعة الجزيرة السودانية، السودان.

أ.د. رحمه علي العليّاني، من جامعة الملك عبدالعزيز بجدة، السعودية.

د. عبدالقادر الحيدر، أستاذ في كلية الطب، من جامعة الملك سعود، السعودية.

د. محمد أوهاج محمد، دكتوراه في الكيمياء الحيوية الطبية و ماجستير التعليم الطبي، في جامعة بيشة، السعودية.

د. أحلام أحمد العوضي، أستاذ مشارك الميكروبيولوجي، بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، السعودية.

كما قام فريق من جامعة الباني بالولايات المتحدة الامريكية بقيادة الدكتور شاكر موسى باكتشاف الخصائص العلاجية التي اكتشفها الباحثون السابقون.

ولكن بعض التجارب تفيد عدم صلاحية بول الإبل لعلاج مرض السرطان، نظراً لأن نِسَب المواد العلاجية في بول الإبل قليل جداً، أقلّ مما يحتاجه مريض السرطان.

فيظهر أن بول الإبل، يصلح لعلاج بعض الحالات غير المستعصية، مثل الحُمَّى، خصوصاً وأن الذين أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم لشرب بول الإبل، كانوا مصابين بالحمّى.

كما أن النبي لم يأمر بشرب أبوال الإبل وحدها، بل بشرب أبوال الإبل وألبانها.

لذلك إذا استخدم مريض أبوال الإبل وحدها، أو استخدم أبوال الإبل وألبانها في غير الحمى، ولم يفده في علاج مرضه، فلا يلومن إلا نفسه.

وكان نساء العرب يغسلن رؤوسهنّ بأبوال الإبل، لأنها تكون في مقام الصابون، كما أنها تقوّي الشعر، وبما أن لأبوال الإبل رائحة زكيّة، بخلاف أبوال البقر والغنم، فإنها كانت تعطي شعور النساء رائحة زكيَّة.

وقوله: "فقطع أيديهم وارجلهم وسَمَل أعينهم" سَمْل العين، هو فقعها، حيث تكوى بمسامير محمّاة، والسبب الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يفعل هذا بهم، هو أنهم ارتدوا بعد إسلامهم، وقتلوا نفساً مسلمة بغير حق، ونهبوا أموال المسلمين، وحاربوا الله ورسوله، وخوّفوا المسلمين، فنكّل بهم النبي صلى الله عليه وسلم، ليكونوا عِبرَة لغيرهم.

وقوله: "لم يحسمهم حتى ماتوا" أي: لم يحسم نزيف الدم من أيديهم وارجلهم بعد قطعها، حتى هلكوا.

هل الله سبحانه وتعالى يُرى في المَنام؟

والجواب:

نعم، الله سبحانه وتعالى يُرى في المنام.

وهذا ثابت بالسنّة النبويّة الشريفة، ومن خلال الواقع، أيضاً.


ويُرى عزّ وجل على حالتين:


الحالة الأولى: يُرى سبحانه وتعالى في صورة القمر بدراً وله نورٌ ساطع.

ولا يوجد دليل شرعي صريح على ذلك.

ولكن، روي عن أبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: "نُورٌ أَنَّىٰ أَرَاهُ"؟.

• وفي رواية: "رَأَيْتُ نُوراً". رواه مسلم.

واختلف ما مراد النبي بهذه الرؤية، هل هي رؤية منام، أم أنها رؤية حقيقة وقعت له ليلة الإسراء إلى السماء.

فقد روى الترمذي في جامعه: عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينا أنا أسير في الجنة، إذ عرض لي نهر حافتاه قباب اللؤلؤ، قلت للملك: ما هذا؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاكه الله، قال: ثم ضرب بيده إلى طينة فاستخرج مسكا، ثم رُفعت لي سدرة المنتهى فرأيت عندها نورا عظيما ": 

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح قد روي من غير وجه عن أنس.

فلا يُدرى ما عَنَى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "فرأيت عندها نوراً عظيما" فقوله: "عندها" ينفي أن يكون هذا النور ساطع منها، لذلك يُعتقد، أن هذا النور الذي رآه النبي هو نور الله تعالى المنبعث من ذاته، وأن هذا ما عناه بقوله لأبي ذر رضي الله عنه: "رأيت نورا" أو "نورٌ أنّا أراه.

لذلك المرجع في معرفة كون الله تعالى يرى في المنام على صورة القمر بدراً، إنما هو التجربة.

ولن يعجز الرائي أن يميّز بين ما هي رؤيا حق، أو رؤيا من الشيطان، بحسب ما تفيده الرؤيا التي رآها الشخص، وما يفهم منها.

وأعرف شخصان رأوا الله في هذه الصورة، أحدهما أعرفه معرفة تامّة، والأخر تربطني به علاقة وثيقة، وأعرف صدقه وأمانته، أحسبه والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدا، لكن هذا عِلْمي به، والله أعلم به.

ولكل راءٍ، لرؤياه سبب أوجبت رؤيته لله تعالى على تلك الصورة، مما يؤكد صحة ما رآه.

والذين رأوا الله عز وجل على هذه الهيئة، قالوا بأنهم رأوا شيئاً شبيهاً بالقمر، مستدير، ولكن ليس فيه محو، كما هو حال القمر، بل كله أبيض شديد البياض، وضوؤه شبيه بضوء القمر، إلا أنه أشدّ سطوعاً وأبهى ضوءاً، وضوؤه يغمر المكان، لا تحدّه الأشياء، وليس له ظلّ.

فهنا نعلم أن الله تعالى وتقدس، تجلّى للرائي في صورة تشبه صورة القمر بدراً.


الحالة الثانية: شاب أمرد وسيم.

وقد ورد في ذلك دليل من السنّة.

فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، قال – القائل هنا ابن عباس - أحسبه قال في المنام، فقال: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: لا، قال: فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها – وفي رواية: برد أنامله - بين ثديي أو قال: في نحري، فعلمت ما في السماوات وما في الأرض" .. الحديث 

رواه الترمذي بسند حسن.


فقوله: "فوضع يديه بين كتفي، حتى وجدت بردها أو برد أنامله بين ثديي" دليل على أن الصورة التي رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربّه فيها، في تلك الرؤيا، كانت تشبه صورة إنسان.


وعن عبدالله بن عباس، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " رأيت ربي جعدا أمرد عليه حلة خضراء "

وفي رواية: " أنه رأى ربه، عز وجل، شابا أمرد جعدا قططا في حلة خضراء ".

وفي رواية: " رأيت ربي، عز وجل، في حلة خضراء في صورة شاب عليه تاج يلمع منه البصر "

وفي رواية: " رأى ربه جل ثناؤه جعدا قططا أمرد في حلة حمراء ".


وقوله: "في حلة حمراء" وهمٌ من الراوي، والصواب كما ورد في باقي الروايات.


وهذا الحديث حديث صححه أهل العلم، وقبلوه.

وممن صحّحه:

الإمام أحمد بن حنبل، ورد ذلك في كتاب المنتخب من علل الخلال لابن قدامة المقدسي. وذكر ذلك أبو يعلى في إبطال التأويلات.

وأبو زرعة الرازي، والطبراني، وأبو الحسن بن بشار، وابن صدقة، ذكر ذلك أبو يعلى الحنبلي في إبطال التأويلات.

ولم يضعّف هذا الحديث سوى المعطلة من المفوضة والمتأولة، مثل ابن الجوزي والسبكي، ومن تأثر بهم من مميعة السلفية مثل الذهبي، وهؤلاء لا عبرة بقولهم، ولا قيمة لحكمهم.

وروى أبو يعلى عن سليمان بن أحمد أنه قال: سمعت ابن صدقة الحافظ، يقول: من لم يؤمن بحديث عكرمة فهو زنديق".

وروى أبو يعلى عن البرذعي، أنه قال: سمعت أبا زرعة الرازي، يقول: من أنكر حديث قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " رأيت ربي، عز وجل، " فهو معتزلي".

وروى أبو يعلى عن أحمد بن محمد بن هانئ الأثرم، يقول: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن حديث حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي، صلى الله عليه وسلم: " رأيت ربي " الحديث، فقال أحمد بن حنبل: هذا حديث رواه الكبر عن الكبر عن الصحابة، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، فمن شك في ذلك أو في شيء منه فهو جهمي لا تقبل شهادته، ولا يسلم عليه، ولا يعاد في مرضه.


وعن أم الطفيل، امرأة أبي بن كعب، أنها قالت: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يذكر: " أنه رأى ربه في المنام في صورة شاب موفر، رجلاه في خضر، عليه نعلان من ذهب، على وجهه فراش من ذهب ".

وفي رواية: " رأيت ربي في المنام في خضر من الفردوس إلى أنصاف ساقيه، في رجليه نعلان من ذهب، على وجهه فراش من ذهب ".

وفي رواية: " أنه رأى ربه في النوم في صورة شاب ذي وفرة، قدماه في الخضر، عليه نعلان من ذهب، على وجهه فراش من ذهب ".


وهذا حديث استنكره الإمام أحمد، وسبب استنكاره هو عدم معرفته بمروان بن عثمان أحد رجال سند هذا الحديث،

إلا أنه أمر بالتحديث به، لان متنه صحيح عنده، فحديث أم الطفيل وحديث ابن عباس يُصحّح بعضهما بعضاً.


بينما صحّحه أبو الحسن بن بشّار، وصححه أبو زرعة الرازي،  ذكر ذلك ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة.


قال أبو يعلى الحنبلي: " وأخرج إلي أبو إسحاق البرمكي جزءا فيه حكايات عن أبي الحسن بن بشار رواية أبيه أبي حفص، عن أبيه أحمد بن إبراهيم، قال: سألت الشيخ يعني أبا الحسن بن بشار عن حديث أم الطفيل وحديث ابن عباس في الرؤيا، فقال: صحيح، فعارض رجل، فقال هذه الأحاديث لا تذكر في مثل هذا الوقت، فقال له الشيخ: فيدرُس الإسلام؟! فسكت".


قال أبو زرعة: " قال أبو زرعة: كل هؤلاء لهم أنساب قوية بالمدينة، فأما مروان بن عثمان فهو مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلي الأنصاري، وأما عمارة فهو ابن عامر بن عمرو بن حزم صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن الحرث وسعيد بن أبي هلال فلا يشك فيهما، وحسبك بعبد الله بن وهب محدثا في دينه وفضله".

فبيّن أبو زرعة أن مروان بن عثمان ليس مجهولاً، وبهذا ينتفي السبب الذين من أجله استنكر الإمام أحمد هذا الخبر لأجله.

لذلك قال أبو يعلى الحنبلي تعليقا على تصحيح أبي الحسن بن بشار لهذا الحديث: "فقد حكم بصحة الحديث، وقد يجوز أنه لم يقع لأحمد معرفة مروان بن عثمان في حال ما سأله مهنا، ثم وقع له معرفة نسبه فيما بعد".

وعلّق أبو يعلى على قول أبو زرعة فقال: " وظاهر الكلام من أبي زرعة إثباتا لرجال حديث أم الطفيل، وتعريفا لهم وبيانا عن عدالتهم، وهو ظاهر ما عليه أصحابنا لأن أبا بكر الخلال ذكر حديث أم الطفيل في سننه ولم يتعرض للطعن عليه".

وروى أبو يعلى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: رأيت أبي يصحح هذه الأحاديث ويذهب إليها وجمعها وحدثناها، وقد ذكر ذلك عبدالله بن حنبل في كتابه السنّة.

وروى أبو يعلى عن عبدالوهاب الورّاق أنه قال: سمعت أسود بن سالم يقول في هذه الأحاديث التي جاءت في الرؤية، قال: نحلف عليها بالطلاق والعتاق أنها حق.


وبطبيعة الحال، فقد ضعفه المعطلة، وهؤلاء كما قلت سابقاً، لا عبرة بأقوالهم، ولا قيمة لأحكامهم.


وجمع هذه الروايات أبو يعلى الحنبلي، في كتابه إبطال التأويلات، وهذا الكتاب، أي كتاب إبطال التأويلات، يشتمل على الغث والسمين، وهذه الأحاديث من الأحاديث السِمان التي اشتمل عليها.


وانظروا إلى قول الشيخ أبي الحسن بن بشار، عندما أراد منه رجل أن لا يحدث بهذا الحديث، فقال له: "فيدرُس الإسلام".


فهذا ما وقع من أكثر المنتسبين للمدرسة السنيّة السلفية، فغنهم لما أرعبتهم شقاشق المتكلمين، واجلبت عليهم الشياطين تخوّفهم وتشنّع عليهم، وتقبّح لهم رواية هذه الأحاديث، فسكتوا عنها، بل منهم من اجتهد في تضعيفها وتكذيبها، بدعوى أنها تسيء للمذهبن ووالله ما يسيء للمذهب غيرهم، وجنايتهم على الغسلام بذلك عظيمة، فقد أعانوا على دروس الإسلام والسنّة، وانتشار البدعة والضلالة.


حتى أبو يعلى الحنبلي، في كتابه ابطال التأويلات، يأتي بغرائب، وذلك بسبب اطراحه على المتكلمين وتلقيه العِلم عنهم، ومجالسته لهم، فيتأول الأحاديث على غير تأويلها.


وأما بالتجربة، فأنا أعرف شخصاً معرفة تامّة رأى الله تبارك وتعالى في صورة شابٍّ أمرد.


وكذلك سمعت أحدهم في بثٍّ مع أحد المعبِّرين، يقول بأنه راى الله تبارك وتعالى في صورة رجل عظيم الخِلقَة.


وقد سمعت ايضاً لإحدى النساء، في بثٍّ مع أحد المعبِّرين، تحكي أنها رأت الله تعالى في المنام، ولكنها لم ترى له صورة ولم تقابله، بل قالت بأنه كان يخاطبها عن طريق الإيحاء بلا صوت وبينه وبينها شجرة، كأنها حجاب بينه وبينها، لذلك هي لم ترى الله تعالى، ولكنها شعرت بوجوده، وحديثه معها عن طريق الإيحاء.


ومنهم من خاطبه الله تعالى بصوته، وهذا وقع للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغني أن أحداً سمع صوت الله تعالى في منامه.


فهذه هي الهيئات التي يُرى فيها الله تبارك وتعالى في المنام.


وقد سمعت لأحدهم يقول: بأن الله يرى في صورة خُضْرَة أو مياهاً تجري.

والجواب على ذلك: أن هذا غير صحيح، ولم يرد في السنة الصحيحة شيء من ذلك.

روى ابن أبي حاتم في تفسيره: عن أبي العالية قال: سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هل رأيت ربك؟ قال: «رأيت نهرا، ورأيت وراء النهر حجابا، ورأيت وراء الحجاب نورا لم أر غير ذلك».

وهذا حديث ضعيف، وهو مرسل، لأن أبا العالية لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم.

ويظهر أن من قال بأن الله يرى في المنام خضرة أو مياهاً تجري، استند على هذا الحديث.

وإن صحّ هذا الحديث، فإن النبي في هذا الحديث لم يرى الله خُضْرة أو مياهاً تجري، بل رأى نور الله تعالى.


ولكن في هذا الحديث لم يبيّن هل رآه يقظة ليلة الإسراء إلى السماء، أو رآه مناماً.


وبالإجماع، فإنه لا يمكن رؤية الله تعالى إلا بعد الموت، وعلى هذا أدلة من القرآن والسنة.


فالدليل من القرآن، هو قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاۤءَ مُوسَىٰ لِمِیقَـٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِیۤ أَنظُرۡ إِلَیۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِی وَلَـٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِیۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكࣰّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقࣰاۚ فَلَمَّاۤ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَـٰنَكَ تُبۡتُ إِلَیۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ [الأعراف ١٤٣]


والدليل من السنة، هو قول النبي صلى الله عليه وسلم في خبر الدجّال:

" تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَمُوتَ" اهـ

رواه مسلم.


ولكن هل رؤية الله تعالى بذاته في المنام ممكنة؟

كثير من أهل العلم يقولون أنه مجرّد مثال أو خَيَال أو حجاب، أو نحو ذلك، 

ولكن هذا فيه نظر، لأنه في حديث ابن عباس، أن النبي قال: "رأيت ربي في أحسن صورة" وأن الله قال له: "فيما يختصم الملأ الأعلى".

وفي حديث الشاب الأمرد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت ربّي".

فظاهر الأحاديث أن رؤية الله في المنام ممكنة، وأن الله تعالى يتهيأ في مخيلة العبد في صور شتّى.

ثم يتبادر إلى الذهن سؤال وهو: هل يعقل أن النبي صلى الله عليه وسلم، سوف يصف ذلك المثال أو الخَيَال أو الحجاب، بأنه ربّه.

فدلّ ذلك على أن رؤية الله تعالى نفسه لا شيء غيره في المنام جائزة.

ولا يوجد في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك، بل الأدلة الشرعية على جواز وقوعه، فالأدلة الشرعية إنما وردت بنفي رؤية الله في اليقظة عياناً في الدنيا.

وأما احتجاج أهل العلم على عدم رؤية ذات الله تعالى في المنام، بأن الله تعالى لا يماثله شيء ولا يشبهه شيء، بأي وجهٍ من الوجوه، واستدلالهم على ذلك، بقوله تعالى: "ليس كمثله شيء" وقوله تعالى: "هل تعلم له سميّا" 

فهذه الآية، قد بيّنت في كتابي: صفات الله عز وجل بفهم العرب الأمّيين الذين أنزل الوحيان بلغتهم. أنه لا تعني ما ذهبوا إليه، من عدم وجود تشابه بين صفات الله تعالى وصفات خلقه. بل الأدلة الشرعية قاطعة بوجود هذا التشابه في المعنى وفي الكيف أيضاً.

ولكن علماء أهل السنة، قومٌ أرعبتهم شقاشق المتكلمين.

حتى صاروا يخافون من إثبات التشابه بين صفات الله وصفات خلقه في المعنى والكيف.

مع أن الأدلة الشرعية قاطعة بذلك!

ولكنه الخَوَر والجُبْن.


والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله وحده أعلم وأحكم.