ومختصر الحديث: أن أبا حذيفة بن عتبة، تزوج في الجاهلية امرأتان، ثبيتة بنت يعار الأوسيّة، من أوس المدينة، وسهلة بنت سهيل العامريّة القرشيّة، وقد أخطأ من نسب سهلة إلى الأنصار، فهي قرشيّة وليست أنصاريّة.
وكان لثبيتة غلام صغير، يدعى سالم، وهو من سبي فارس، من أهل اصطخر، فكان سالم يدخل وهو صغير على سيدته وعلى سيده أبو حذيفة، وعلى سهلة بنت سهيلـ يخدمهم، وكان يدخل على ثبيتة وسهلة وهُنّ فُضُل، أي: متبذلات في لباسهن، لأنه صغير، ولم يكن يرينه إلا مثل ولدهن، لما يقوم به عليهن من الخدمة، وكان ذا خُلُق وحياء، فأحبه أبو حذيفة وزوجاته حبّاً شديداً، فأعتقته ثبيتة سائبة، يتولّى من شاء، فبقي معهم، فتبنّاه أبو حذيفة وجعله ابناً له، فكان يدعى: سالم بن أبي حذيفة، واسلم سالم مع أبي حذيفة، وهاجر إلى المدينة، وكان قد بلغ الخامسة عشر أو أكثر من ذلك، وزوجه أبو حذيفة من ابنة أخيه: فاطمة بنت الوليد بن عتبة، ويظهر أن زواجه منها وقع قبل السنة الخامسة للهجرة، فلما نزلت آية تحريم التبني، ترك الانتساب إلى أبي حذيفة، وصار أخاً له في الإسلام، ويظهر من الأخبار، أن أبا حذيفة طلّق ثبيتة، فبقي سالم مع أبي حذيفة، أبوه بالتبنّي ومع سهيلة، ولما كان سالم منذ صغر سِنِّه، يدخل على زوجات أبي حذيفة وهُنّ فًضُل، كان قد تعوّد على ذلك، فلم يكن سالم يستنكر أن يدخل على سهلة وهي فُضُل، ولا كانت هي تستنكر ذلك، لأنها قد تعودت عليه منذ صغره، ولم تكن تراه إلا ابناً لها. فرأت كراهة ذلك في نفس أبي حذيفة، فذهبت تستفتي النبي صلى الله عليه وسلم في شأنه، وتقول له: "كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ، وَأَنَا فُضُلٌ وَلَيْسَ لَنَا إِلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ، فَمَاذَا تَرَى فِي شَأْنِهِ؟" رواه مالك في الموطأ، فقال لها النبي: "أرضعيه تحرمي عليه، ويذهب ما في نفس أبي حذيفة". قالت: وكيف أرضعه؟ وهو رجل كبير. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "قد علمت أنه رجل كبير". فأرضعته، فذهب ما في نفس أبي حذيفة، من شأن دخول سالم عليها. (رواه مالك في الموطأ ومسلم في صحيحه وغيرهما).
قلت: وقد أجمع الصحابة وأمهات المؤمنين على أن هذه الرضاعة رُخصة لسهلة بنت سهيل، من دون الناس، وان الرضاع الذي يحرم، ما كان في الحولين فقط. (رواه مالك في الموطأ وغيره)
عن زينب بنت أبي سلمة أخبرته؛ أن أمها أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقول: أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة. وقلن لعائشة: والله! مانرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة. فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة. ولا رائينا. (رواه مسلم).
إلّا عائشة رضي الله عنها، فإنها اعتبرت ذلك رخصة لجميع الناس، روى مالك في موطأه عن عروة أنه قال: "فَأَخَذَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَنْ كَانَتْ تُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنَ الرِّجَالِ، فَكَانَتْ تَأْمُرُ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَبَنَاتِ أَخِيهَا أَنْ يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبَّتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنَ الرِّجَالِ".
قلت: ولم تكن عائشة رضي الله عنها لتجرأ على أن ترسل رجالاً كباراً لأخواتها، وإن كانت ترى في ذلك رخصة، لأن نساء العرب لم يكن يجرؤن على ارضاع الكبير وهن في الجاهلية، فكيف في الإسلام، لذلك كانت عائشة ترسل صبية يافعين لأخواتها ليرضعنهم، والصبي اليافع هو ما بين ثلاث سنين إلى اربعة عشر سنة، أي: لم يبلغ سِنّ الاحتلام.
روى مسلم في صحيحه، عن زينب بنت أم سلمة. قالت: قالت أم سلمة لعائشة: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي. قال: فقالت عائشة: أما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة؟.
فالشاهد من هذا الحديث، هو قولها: "الغلام الأيفع" فدلّ هذا على أنها إنما ترسل أغيلمة يافعين، لا رجالاً محتلمين.
والقول الفصل في هذه المسألة، هو قول جميع الصحابة وجمهور أمهات المؤمنين، وهو أن رضاعة الكبير رخصة لسهلة بنت سهيل، وأن الرضاع الذي يحرم هو ما كان في الحولين، حتى أن سالم بن عبدالله بن عمر، لم يؤذن له في الدخول على عائشة، مع أنها أرسلته لأخواتها لإرضاعه، لأنه لم يتم الرضاعة التي يحرم بها الصبي، مع أنه رضع من أم كلثوم في الحولين.
روى مالك في موطأه عن نافع، أن سالم بن عبد الله بن عمر، أخبره أن عائشة أم المؤمنين أرسلت به، وهو يرضع إلى أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، فقالت: «أرضعيه عشر رضعات حتى يدخل علي»، قال سالم فأرضعتني أم كلثوم ثلاث رضعات، ثم مرضت، فلم ترضعني غير ثلاث رضعات، فلم أكن أدخل على عائشة من أجل أن أم كلثوم لم تتم لي عشر رضعات.
فعمل الناس من زمن الصحابة وما بعده على أن رضاع الكبير رخصة لسهيلة بنت سهل، وأن الرضاع الذي يحرم هو ما كان في الحولين لجميع الناس.
وذهب بعض أهل العِلم، إلى أن هذه الرخصة تشمل كلّ من كانت حالتهم مثل حالة سهلة وسالم، بحيث اشترطوا لذلك: أن يكون الراضع، قد تربى منذ صغره في بيت المُرضِع، بحيث يكون وكأنه ابنٌ لها، وأن يكون لا بد من دخوله عليها، للخدمة، وأن لا يكون لهم إلّا بيتٌ واحدٌ يتشاركونه.
والله وحده أعلم وأحكم.