القرآن والسنة حجّة في كلّ زمان ومكان.
وذلك أن الله تبارك وتعالى، جعل القرآن تبياناً لكل شيء.
فقال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ءَایَـٰتِۭ بَیِّنَـٰت وَمَا یَكۡفُرُ بِهَاۤ إِلَّا ٱلۡفَـٰسِقُونَ﴾ [البقرة ٩٩]
وقال تعالى: ﴿وَنَزَّلۡنَا عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ تِبۡیَـٰنا لِّكُلِّ شَیۡء وَهُدى وَرَحۡمَة وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِینَ﴾ [النحل ٨٩]
وقوله تعالى: (لكل شيء) أي: لكل شيء يخصّ الدين. من خلق هذا الكون، ولماذا خلقه، وما هو المطلوب من هذا الخلق، وما هو مصير المخلوقات.
في آيات كثيرة يصف الله تبارك وتعالى كتابه وآياته بأنها بيان.
فالقرآن بيان، والنبي صلى الله عليه وسلم مُبيِّن.
قال تعالى: ﴿بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَٱلزُّبُرِۗ وَأَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَیۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ یَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل ٤٤]
وقال تعالى: ﴿وَمَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ إِلَّا لِتُبَیِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِی ٱخۡتَلَفُوا۟ فِیهِ وَهُدى وَرَحۡمَة لِّقَوۡم یُؤۡمِنُونَ﴾ [النحل ٦٤]
فالنبي يبيّن للناس عن ربهم ما نُزِّل إليهم، بمعنى يقرأه عليهم.
ويبيّنه لهم، بمعنى أنه يشرح لهم كيفية إقامة العبادات المفروضة عليهم.
وقد بيّن ربّنا عز وجل، مسائل العقيدة خير بيان، في توحيد الملك والخلق والأمر والتدبير والعبادة.
وما سكت الله تبارك وتعالى عن تفصيله وبيانه من مسائل العقيدة، فإنما لكون العقل الصحيح والفطرة السليمة قد جرت ببيانه، فلم يعد في حاجة إلى بيان أخر.
مثال ذلك: عندما يوبخ الله تبارك وتعالى المشركين في دعائهم غيره، ثم لا يفصّل سبحانه وتعالى لنا، الدعاء الذي يجب ألا يصرف إلّا له سبحانه، والدعاء الذي يجوز صرفه لغيره، فهذا لكون العقل الصحيح والفطرة السليمة قد جرت ببيانه، فلا يحتاج إلى بيانٍ من الله تعالى.
وأما العبادات والمعاملات وغير ذلك من الشرائع، فقد بيّن الله تعالى ما افترضه على عباده من العبادات، وما أحلّه وما حرّمه عليهم من المعاملات، بإجمال، وأوكل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم شرح ذلك وبيان كيفيّته.
ثم تكفّل عز وجل بحفظ القرآن الكريم.
فقال تعالى: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ﴾ [الحجر ٩]
وهذا بدليل النقل.
وأما بدليل العقل، فلأن القرآن هو خاتم الكتب، كما أن النبي محمد هو خاتم الرُسُل،
فلو لم يحفظ الله تعالى القرآن الكريم، لحتاج الناس إلى نبيٍّ يُجدِّد لهم نصّ القرآن، أو يأتي لهم بقرآن أخر، بنصٍّ أخر،
وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل، فلن يكون هناك نبي أو رسول بعده، فلن يكون هناك نبيٌّ يُجدّد لنا نصّ القرآن إذا ما تعرّض نصّه للتحريف والتبديل والزيادة والنقصان، أو يأتي بقرآن جديد بنصّ جديد، فلزم هنا أن يكون القرآن محفوظاً، ليكون حجّة على الخلق إلى قيام الساعة.
وما حفظ الله تعالى القرآن الكريم، وما قيّظ للسُنَّة النبويّة من يجمعها، ويغربلها، إلّا لتكون حجّة على الناس في كلّ زمان ومكان.
ولو لم يكن القرآن والسنة، حجة في كل زمان ومكان، لكان أحق الناس بالعذر، وألا يكون القرآن والسنّة حجة عليهم، هم مشركو قريشٍ والعرب.
فإن لم يكن لهؤلاء عذرٌ بعد القرآن والسنّة، فليس لأحدٍ بعدهم عذر، بعد القرآن والسنّة.
والقرآن والسنة، زيادة حجّة في المسائل الثابتة بالعقل الصحيح والفِطرة السليمة.
أقول: زيادة حجّة، وإلا فحجة العقل والفطرة قائمة في هذه المسائل من دون القرآن والسنة.
فالمشرك الشرك الأكبر سواء قرأ القرآن أو لم يقرأه، وسواء سمع بالإسلام أو لم يسمع به، فقد قامت عليه الحجة بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، وبآيات الله في الآفاق وفي نفسه، وبالميثاق الأول، الذي أخذه الله تبارك وتعالى على بني آدم قبل أن يخلق أجسادهم.
قد يقول البعض: الميثاق الأول نسيَه الناس، والله بعث الرسل ليذكروا الناس الميثاق الأول، فكيف يكون حجة هنا؟
فالجواب على ذلك: لولا أن الميثاق الأول ليس حجة على الناس، لما أخذه الله تبارك وتعالى على عباده قبل أن يخلقهم، لأن الله حكيم، ولا يفعل شيئاً إلا لحكمة، فمحالٌ أن نقول بأن الله تعالى أخذ الميثاق الأول على خلقه هكذا عبثاً، لأنه لو لم يكن حجة على الخلق، لكان أخذه عليهم أوّل مرة عبث، والله يتعالى عن ذلك سبحانه.
وهذا في المشرك الذي لا يعرف الإسلام ولم يسمع به، أو لا ينتسب إلى الإسلام، ولكنه يسمع به.
أما الصوفي المشرك والرافضي المشرك، فهذا قد سمع بالقرآن والسنة، فقد ازدادت حجج الله عليه.
ولا يعذر المشرك في هذا الباب بأي حال من الأحوال، حتى لو كان أعجميّاً أو أمّيّاً.
لأنا قلنا بأن الحجة قائمة عليه بدون كتاب أو سنّة.
فلا عُذر له في أعجميَّته ولا في أُمِّيَتِهِ.
وهو مطالب بأن يُعْمِل فِكره وعقله، ولا يكون مقلّداً جامداً، ولا إمعة هائماً.
فإن الله تعالى وهب عباده أدمغة يفكِّرون بها وقلوباً يعقلون بها، فمن عطّل فكره وعقله، فهو الجاني على نفسه.
وهنا سؤال: ما حال الرجل أو المرأة، اللذين لم يسمعا بالإسلام، ولا بالقرآن والسنة؟
فالجواب: مثل هذا النوع من الناس، مطالبون يإعمال أدمغتهم وقلوبهم، وفِكرهم وعقولهم، وما فطرهم الله عليه من الإيمان بوجوده سبحانه، وأنه المتفرد بالملك والخلق والأمر والتدبير، وأنه الواحد الذي يجب أن تصرف له العبادة الشرعية من الدعاء وغيره.
وعندي أن الرجل أو المرأة، اللذين لم يبلغهما الإسلام، ولم يسمعا به، ولكنهما أعملا فكرهما وعقولهما، وما فطرهم الله عليه من الإيمان بالله وبتفرده بالملك والخلق والأمر والتدبير، وصرفا العبادة له وحده، من الدعاء وغيره، وإن لم يعرفا الإسلام ولا شرائعه، أنهم من الناجين يوم القيامة بإذن الله تعالى، وأنهما مسلمان بما معهما من الإسلام والإيمان بحول الله وقوته.
وذلك قياساً على زيد بن نفيل العدوي القرشي رحمه الله.
ولكن القرآن والسنة، حجة في المسائل الخبريّة، التي لا يمكن معرفتها إلا بالخبر عن الله أو عن رسوله.
وهذا لا يقع إلا للمسلمين.
لأنهم مطالبون بتعلّم أمور دينهم، فمن قصَّر في ذلك، فهو الجاني على نفسه.
فإن كان قارئا لزمه قراءة القرآن والسنة.
ومن لم يكن قارئاً لزمه سماع القرآن والسنة.
وإن كان أعجميَّاً لزمه أن يبحث عمّن يترجم له القرآن والسنة ترجمة صحيحة.
وذلك حتى يعرفوا دينهم.
وليس لأحد عذر في هذا الأمر سوى ثلاثة:
الأول: المسلم الأعجمي، الذي لم يجد من يُترجم له القرآن والسنة، ترجمة صحيحة.
فإن وجد من يُترجم له القرآن والسنة ترجمة صحيحة، فقد سقط عذره.
ما لم يكن هذا المترجم خائناً، فيترجم له غير القرآن والسنة، أو يترجم له ما يشاء منهما، ويدع ما يشاء، فهؤلاء معذورون، والوزر عليه، ما لم يطيعوه في الشرك الأكبر، لأنهم عندئذ، مطالبون بإعمال أفكارهم وعقولهم.
والثاني: المسلم الأمي، الذي لم يجد من يقرأ له القرآن والسنة، كمن يعيش في مكان بعيد، وكل من حوله أمّيون مثله، ولا يحفظون القرآن والسنة.
فإن وجد من يقرأ عليهم القرآن والسنة، فقد سقط عذرهم.
ما لم يكن هذا القارئ خائناً، فيتلوا عليهم غير القرآن والسنة، أو يملي لهم ما يشاء منه، ويدع ما يشاء، فهؤلاء معذورون، والوزر عليه، ما لم يطيعوه في الشرك الأكبر، لأنهم عندئذ، مطالبون بإعمال أفكارهم وعقولهم.
وهذا مثل من يخبر الناس بخبر واقعة من الوقائع، فيخلط لهم الصدق بالكذب، في شأن هذه الوقعة، فقد يضع لهم ويزيد لهم في خبر الواقعة، ما لا يقبله العقل، فإن قبلوا ذلك منه، كان اللوم عليهم، ولنُسِب ذلك إلى قِلّة عقولهم، وبلادة فهومهم، واعتُبِر ذلك قدحاً فيهم، ومذمة لهم.
لذلك عندما يثق الناس في شخص من الأشخاص، في شأن دينهم، فيأتي لهم بما لا يقبله عقل صحيح ولا فطرة سليمة، ثم تابعوه عليه، ووافقوه عليه، فهذا دليل على قلّة عقولهم، وبلادة فهومهم، وكان اللوم واقع عليهم، لأن ما قبلوه منه، لا يقبله عقل صحيح ولا فطرة سليمة.
والثالث: الأعمى الأصم، الذي لا يرى ولا يسمع، ولا يمكن تعليمه بوجه من الوجوه، وعادة هذا النوع من البشر، يكون مسلماً بالفطرة، وحكمه حكم المولود الذي مات قبل أن يصل إلى سنٍ يعرب فيه عن نفسه،
لأنه باقٍ على خِلقتِه، لم يتمكن الكفّار من تلقينه كفرهم، ولا تمكن المسلمون من تلقينه شرائع الإسلام التي افترضها الله عليه.
والرابع: الأعجمي أو الأمّي، الذي بلغه الخبر، وتليت عليه آيات القرآن وأحاديث النبي، ولكنه شك في صدق المُخبِر، وخشي أن يكون كذَبَ عليه،
فهذا له حالان:
الأولى: أن يهتم لهذا الأمر، ويجتهد في التثبت من صحته، فهذا أرجوا أن يكون معفوّاً عنه، إن هلك قبل أن يتحقق من صحة ما أُخبِر به، لأنه لم يعرض ولم يهمل ولم يشتغل عن البحث عن الحق.
والثاني: ألا يهتم بهذا الأمر، ولا يجتهد في البحث عن صحته، بل يعرض ويهمل وينشغل عنه، فهذا غير معفوٍّ عنه، لأنه معرض مهمل لا يهتم بأمر دينه.
وهناك حالة رابعة، وهي: أن تقع مخالفة المسلم والمسلمة، في أمر يشتبه عليهم حكمه، كون ظاهر الأدلة قد يكون موافقاً لما وقعوا فيه من مخالفة، فإن كان خطؤهم في هذه المسألة ليس عن إعراض وتكبّر وتعمّد وإصرار، فهؤلاء نرجو أن يعفو الله عنهم، وأما إن أعرضوا عن الحق، وهم عالمون به، موقنون بخطئهم فيه، فهؤلاء حكمهم حكم المكّذب لله ولرسوله، والمُكذّب لله ولرسوله كافر.
وكلّ الناس مطالبون بمعرفة الإسلام وتعلُّم شرائعه، كل بحسبه، وجهده وطاقته.
لو لم يقدر من معرفة الإسلام وشرائعه، إلا على معرفة توحيد الربوبية والألوهية.
وهذا أمرٌ مُسَلَّمٌ به.
ذلك أن الإنسان لا ينتظر من أحدٍ أن يجلب له رزقه، بل يسعى هو في طلب الرزق، وتعلّم صنعة يكسب منها رزقه. فكيف يهتمّ بأمر رزقه ولا يهتم بأمر دينه؟!
ولو أن شخصاً أهمل في طلب الرزق أو تعلّم صنعة يكسب منها رزقه، للامه الناس على ما هو فيه من فقر وحاجة، ولنسبوا ذلك إلى تقصيره في طلب الرزق، وتعلّم صنعة يكسب منها رزقه.
وإن لام الناس من يحيط بهذا الشخص على ما عليه هذا الشخص من فقر وحاجة، فإنما يلومونهم على أنهم لم يقوموا بتحفيزه على طلب الرزق وتعلم صنعة يكسب منها رزقه.
ولكن عندما يكون الأمر متعلِّقاً بالدين وشرائعه، تجد الشيطان يقلب الأمر عند الناس رأساً على عقِب، فتجدهم يتوسّعون توسّعاً فاحشاً في الأعذار.
ويحمّلون العلماء والدعاة كلّ اللوم، على عدم دعوتهم للناس وتحفيزهم على اتباع الحق، وتعليمهم أمور دينهم.
ولو سُئِل كافرٌ أو مبتدع أو جاهل، عن سبب وقوعه في الكفر أو البِدعة أو الجهل، لقال: لم يأتني داعيةٌ إلى الحق أو عالمٌ يُعلّمني خطئي فيما خالفت فيه، أو يعلّمني أمور ديني!
وهو في الحقيقة، إنما يبحث عمن يتحمّل عنه، وزر تقصيره في طلب الحق والعلم.
أو يكون المتصدر للتعليم في بلده كفّاراً أو مبتدعة، فيقول: اتبعت علماء بلدي!
حسناً أوليس لك عقل تميّز به بين الصح والخطأ والحق والباطل والصدق والكذب!
ولكنه كما قال أحد كبار السن من بادية نجد: ما فيه شي اسمه فلان خرّبني، أنت حمار ولقيت من يسوقك.
وخرّبني في العاميّة النجديّة تعني: أفسدني.
ولقِيت، أي: وجدتَ.
فهذا الأعرابي النجدي، لما كان ذهنه نقيّاً، ولم يتلقى تلك الأعذار السخيفة ممن ينتسب إلى العِلم والعلماء، أبان عن الحق، وأن هناك ما يدرك حسنه أو قبحه بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، ولذلك فإن اللوم يقع على عاتق المقلِّد والمتابع، كونه رضي بما أملاه عليه المُقلَّد والمتبوع، معطِّلاً فكره وعقله.
فالحقّ أن يُحمَّل الكافر أو المبتدع أو الجاهل، اللوم كاملاً على ما هو عليه من كفرٍ أو بدعة أو جهل.
إذ كان عليه أن يسارع في طلب الإسلام، ومعرفة الحق، ومعرفة شرائع الإسلام، ويهتم لذلك كما يهتم لرزقه.
ويُحمَّل العلماء وطلبة العِلم، اللوم إذا قصَّروا في واجبهم في دعوة الناس إلى الحق، وتنبيههم، وتذكيرهم، وتحفيزهم على اتباع الحق.
فكلا الطرفين مُلامٌ إذا قصَّر في القيام بواجبه الديني.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
والله أعلم وأحكم.