مصادر تلقّي العلوم الشرعيّة

مصادر تلقي العلوم الشرعية لا تخرج عن مصدرين:

القرآن الكريم

والسنة النبوية

والتي هي عبارة عن شرح لما أجمل حكمه أو اشتبه معناه في القرآن الكريم.

والسنة النبوية، هي كل خبر مرويٍّ عن النبي (ص) من أقواله أو أفعاله أو تقريراته.

وأما القياس والإجماع فهما يقومان أساساً على هذين المصدرين، فأي قياس أو إجماع يخالف ما نصّ عليه القرآن الكريم والسنة النبوية، فهو قياس فاسد وإجماع باطل.

فأما القرآن الكريم، فهو محفوظ بحفظ الله تبارك وتعالى له.

قال تعالى في سورة الحِجر: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)

فالقرآن الكريم نصّ قطعي الثبوت.

وأما السنة النبوية، فقد أوكل الله تبارك وتعالى حفظها لعباده.

فتجد فيها الصحيح والحسن والضعيف والضعيف جداً والموضوع والشاذ والمنكر.

ولا ترتقي السنة النبوية إلى درجة قطعيّة الثبوت، إلا إذا توفّر فيه ثلاث شروط:

الشرط الأول: صحة الإسناد، بأن يكون جميع رواة سند الخبر المروي عن النبي (ص) كلهم ثقات.

والشرط الثاني: أن لا يتعارض الخبر المروي عن النبي (ص) مع القرآن الكريم تعارضاً لا يمكننا معه الجمع بينهما.

فإذا تعارض مع القرآن الكريم، أسقِط الحديث، وحكم بشذوذه.

والشرط الثالث: أن لا يتعارض مع خبر صحيح أخر، فإذا تعارض مع خبر صحيح أخر، نُظِر إلى أقواهما إسناداً، أو أكثرهما تواتراً في سنده أو معناه، أو من له شواهد تشهد له من الأخبار الحسنة أو الضعيفة، فعندئذٍ يقدم أقواهما إسناداً أو أقواهما متناً، ويُسقَط الأخر، ويُحكم بشذوذه.

ويُصَنَّف الخبر الصحيح الذي توافرت فيه الشروط الثلاث: بأنه خبر مقبول، بينما من لم تنطبق عليه أحد هذه الشروط الثلاث أو أحدها، بأنه خبر غير مقبول.

وأما الأخبار الحسنة، وهي الأخبار التي في اسانيدها راو أو أكثر دون الثقة في الحفظ والإتقان، فلا تقبل إلا إذا توفرت فيها ثلاث شروط:

أولها: أن لا يتعارض مع القرآن معارضة لا يمكننا معه الجمع بينها.

وثانيها: أن لا يتعارض مع الأخبار الصحيحة المقبولة، معارضة لا يمكننا معه الجمع بينها.

وثالثها: أن لا يتعارض مع خبر حسن أخر، فإن تعارض مع خبر حسن أخر، نُظِر إلى أقواهما إسناداً، أو أكثرهما تواتراً في سنده أو معناه، أو من له شواهد تشهد له من الأخبار وإن كان في أسانيدها ضعف، فعندئذٍ يقدم أقواهما إسناداً أو متناً، ويُسقَط الأخر، ويُحكم بنكارته.

ويُصَنَّف الخبر الحسن الذي توافرت فيه الشروط الثلاث: بأنه خبر مقبول، بينما من لم تنطبق عليه أحد هذه الشروط الثلاث أو أحدها، بأنه خبر غير مقبول.

وأما الأخبار الضعيفة الإسناد، فلا يؤخذ منها إلا ما شهد القرآن الكريم والأحاديث النبوية المقبولة، بصحة المتن.

لذلك قد نجد في الأخبار الضعيفة، أخبار مقبولة، وأخبار غير مقبولة.

وأما الأخبار التي أسانيدها ضعيفة جداً، أو موضوعة، فلا يؤخذ منها شيء، بل تصنّف مباشرة على أنها أحاديث غير مقبولة.

فالأخبار المقبولة، تشتمل على أخبار صحيحة وحسنة وضعيفة.

بينما الأخبار الغير مقبولة، تشتمل أيضاً على أخبار صحيحة وحسنة وضعيفة، بالإضافة إلى الضعيفة جداً والموضوعة.

فالمعتمد عليه في فهم الشريعة هي الأحاديث المقبولة، والتي تعتبر شارحة ومبيّنة لما أجمل حكمه أو اشتبه معناه في القرآن الكريم.

وأما ما روي عن الصحابة، وهي الأخبار الموقوفة، فيجب تطبيق الشروط السابقة عليه، وزيادة على ذلك، أن لا يتعارض ما روي عن الصحابي ما ثبت عن النبي (ص) فإنا تعارضا، قُدِّم الحديث المرفوع.

لأن الصحابي قد يفتي برأيه في مسألة من مسائل الشريعة فيخطئ، أو ربما ينقل عن أهل الكتاب، فيما يخص أخبار بدء الخلق وسير الأنبياء.

وأما ما روي عن التابعين، وهي الأخبار المقطوعة، فيجب تطبيق الشروط السابقة عليه، وزيادة على ذلك، أن لا يتعارض قول التابعي، مع ما ثبت عن النبي (ص) ولا يتعارض مع ما ثبت عن الصحابة، فإن تعارض، قدم الخبر المرفوع والخبر الموقوف، على خبر التابعي.

ومثلهما تابعي التابعين، على هذا المنهج.

وهذه الطبقات الثلاث هي القرون المفضلة الأولى التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".

النبي (ص) وصحابته رضوان الله عليه، قرن. 

والتابعين، قرن.

وتابعي التابعين، قرن.

وأما من جاء بعدهم، فهو أسوة بقيّة من جاء بعد تابعي التابعين من العلماء.

وأما الرأي، فأهل الحق والبصيرة لا يرجعون إليه إلا في أضيق الحالات، في مسألة حادثة لم يرد نص صريح من الكتاب والسنة بالبتّ فيها، فعندئذ يقيسون هذه المسألة على ما يشبهها في القرآن أو السنة، وإذا أجمع أهل العلم – وهم أهل السنّة فقط – في ذلك الزمان، على قياس مسألة أُخِذ به.

وأما الكلام والفلسفة فأهل الحق من أبعد الناس عنه، فالشريعة إنما هي أمر ونهي، وترغيب وترهيب، وإخبار، بفهم العرب الأميين الذين أنزل الوحيان بلغتهم، فلا مجال للكلام والفلسفة والشقشقة في هذه الأمور.

وهذا المنهج في التلقي، هو المنهج الذي يدلك على سبيل الله عز وجل، الذي من سلكه نجى بإذن الله يوم القيامة.

وهنا تنبيهات: 

الأول: أن المعتمد في نقد الأخبار ونقد رواتها هم ائمة السنة الأوائل، أعني بذلك، الجيل الذي أسس لعلم الحديث والرجال، وأول من ألف في الحديث والتراجم والسير، والجرح والتعديل، أخرهم كان الدارقطني المتوفى سنة 385هـ. وأما من جاء بعدهم فمتطفلون، ولا قيمة لهم.

والثاني: أننا في هذا الزمان، أقدر من أئمة السنة الأوائل في نقد الأخبار، والسبب في ذلك، يعود إلى أنه قد أجتمع إلينا من علمهم مالم يجتمع لأفرادهم، فقد يعدل أحد الأئمة رجلاً يكون قد تبيّن عند أخر أنه مجروح، وقد يصحح أحد الأئمة حديثاً، يكون عند الأخر معلولا، فنحن لا نخرج عن أقوالهم، ولكن نقارن بينها، وننتقي منها.

والثالث: ليس قولي بأن الأخبار تعرض على القرآن الكريم من جنس قول المتكلمين، الذي يدعون أنهم يعرضون الأخبار على القرآن الكريم، فإذا ما تعارض معها أسقطوا الخبر، لأن هذا منهم ادعاء كاذب، وتلبيس وتدليس وتحايل، لأنهم في الحقيقة لا يعرضون الأخبار على القرآن الكريم، بل يعرضون الأخبار والقرآن نفسه على شقاشق أئمتهم ملاحدة الإغريق، فإنا تعرض النصّ القرآني مع شقاشق أئمتهم، حرفوا معناه، وتلاعبوا بقواعد اللغة العربيّة للوصول إلى ذلك، كادعاء وجود حذف في الآية، أو أنها مجرد مثال، ونحو ذلك، أو حرّفوا معنى الكلمة إلى معنى لا تحتمله ولا تعرفه العرب من كلامها، وإن تعارض الحديث مع شقاشق أئمتهم، سعوا إلى ضربه بالعلل، وإن كانت هذه العلل باطلة ومردودة، ولا يعتد بها في علم الحديث، أهم شيء أن يجدوا وسيلة للطعن فيه، والتظاهر بأن لديهم حجة في ذلك، فإن أعيتهم الحِيَل، اجتهدوا في تحريف معناه كما فعلوا بالنص القرآني.

والرابع: أن مصادر تلقي التاريخ الإسلامي فيما يخص بدء الخلق ونشأة الكون وسير الأنبياء وعلامات الساعة وأهوال يوم القيامة وصفة العوالم الغيبية، هي نفس مصادر تلقي العلوم الشرعية، والمنهج في نقد أخبارها، هو نفس المنهج المتبع في نقد أخبار الشريعة الإسلامية

والله الهادي إلى سواء السبيل

والله أعلم وأحكم.

نهر الكوثر وحوضه

عن حارثة بن وهب  قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الحوض فقال: "كما بين المدينة وصنعاء".

وعن المستورد، أن النبي قال: "ترى فيه الآنية مثل الكواكب".

رواه البخاري ومسلم.

وعن عقبة بن عامر  قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد، ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات فقال: "إني فرطكم على الحوض، وإن عرضه لما بين أيلة إلى الجحفة".

رواه البخاري ومسلم.

وعن عبد الله بن عمرو ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حوضي مسيرة شهر".

رواة البخاري ومسلم.

وفي رواية عند مسلم: "حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء، وماؤه أبيض من الورق، وريحه أطيب من المسك".

وقوله: "زواياه سواء" أي: أن عرضه كطوله.  

 ‌أنس بن مالك  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء.»

رواه البخاري.

قوله: "كما بين أيلة وصنعاء" وهم من الراوي، فأكثر الرواة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كما بين أيلة والجحفة" وفي موضع أخر قال: "كما بين المدينة وصنعاء" والمسافة بين هذه المواضع متقاربة، فيظهر أن أحد الرواة سمع أن عرض الحوض كما بين أيلة والجحفة، أو كما بين المدينة وصنعاء، فاختلط عليهم الأمر فظن أنه سمع أن عرض الحوض كما بين أيلة وصنعاء.

وعن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أمامكم حوضا. ما بين ناحيتيه كما بين جربا وأذرح".

رواه البخاري ومسلم.

قوله: "بين جربا وأذرح" وهم من الراوي أيضا، لأن جربا وأذرح موضعان بالشام، قريب بعضها من بعض، وهو خلاف الأحاديث المتواترة معنا، والتي دلّت على أن عرض الحوض مسيرة شهر، تصريحا أو تلميحا، لأن المسافة بين المدينة وصنعاء قرابة مسيرة شهر، والمسافة بين أيلة والجحفة، قرابة مسيرة شهر.

وعن ‌عبد الله بن مسعود  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن رجال منكم، ثم ليختلجن دوني، فأقول: يا رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك».

‌وعن عبد الله بن عمرو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منها فلا يظمأ أبدا.»

و‌عن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طينه أو طيبه مسك أذفر».

قال البخاري: شط هدبة.

قلت: هدبة أحد رواة الحديث، لا يدري هل سمعه طينه أو طيبه.

وعن أنس؛ قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة. ثم رفع رأسه متبسما. فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله! قال "أنزلت علي آنفا سورة". فقرأ " {بسم الله الرحمن الرحيم. إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وانحر. إن شانئك هو الأبتر} " ثم قال "أتدرون ما الكوثر؟ " فقلنا: الله ورسوله أعلم. قال "فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل. عليه خير كثير. و حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة. آنيته عدد النجوم. فيختلج العبد منهم. فأقول: رب! إنه من أمتي. فيقول: ما تدري ما أحدثت بعدك"

رواه مسلم.

وفي رواية عن أنس قال: "ترى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء".

رواه مسلم.

وفي رواية عن أنس بن مالك، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الكوثر؟ قال: "ذاك نهر أعطانيه الله - يعني في الجنة - أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، فيها طير أعناقها كأعناق الجزر". قال عمر: إن هذه لناعمة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكلتها أنعم منها".

رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن.

وعند أحمد في مسنده، أن قائل: "إن هذه لناعمة" أبو بكر وليس عمر بن الخطّاب، ومثل هذه الأوهام، تقع عادة من الرواة، ولا يؤثر مثل ذلك في صحة الخبر.

وقوله: "الجًزًر" جمع جَزور، وهو البعير.

وعن أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله! ما آنية الحوض؟ قال "والذي نفس محمد بيده! لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها. ألا في الليلة المظلمة المصحية. آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه. يشخب فيه ميزابان من الجنة. من شرب منه لم يظمأ. عرضه مثل طوله. ما بين عمان إلى أيلة. ماؤه أشد بياضا من اللبن. وأحلى من العسل".

رواه مسلم.

عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال "إني لبعقر حوضي أذود الناس لأهل اليمن. أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم". فسئل عن عرضه فقال "من مقامي إلى عمان". وسئل عن شرابه فقال "أشد بياضا من البن، وأحلى من العسل. يغت فيه ميزابان يمدانه من الجنة. أحدهما من ذهب والآخر من ورق".

رواه مسلم.

قوله: "لأهل اليمن" أي: الأنصار، لأنهم من اليمن، فهم من الأزد من قحطان.

وقوله: "يرفض عليهم" أي: يرفضّ الناس عن الحوض حتى يخلو لأهل اليمن، فيردون، ويشربون.

وقوله: "يغتّ" أي: يصبّ.

وعن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي حوض، يتباهون أيهم أكثر واردة، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم واردة".

رواه الترمذي وقال: حديث غريب.

قلت: فهذه الأخبار بمجموعها، تدل على أن الكوثر نهر أعطاه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وأن هذا النهر، يمد له ميزابان أحدهما من ذهب والأخر من ورِق، ويوضع له حوض في الأرض يوم القيامة، فيصب من ماء النهر في الحوض حتى يملأه، وتوضع فيه أواني من ذهب وفضّة، بعدد نجوم السماء كثرة، فيكون أول من يرد عليه هم الأنصار، ثم يرد الناس بعدهم.

وهذا الحوض، لا يعلم أحد متى يوضع على الأرض، وهل يوضع قبل الحساب أم بعده، ولكن قطعا أن هذا الحوض يوضع ويرد الناس عليه قبل أن يتساقط الكفار في النار، وقبل أن ينتقل المؤمنون إلى الظلمة ليصعدوا على الصراط، لأنه لا يتجاوز الصراط إلا ناجٍ، ولا يكون ناجٍ، إلا وقد شر بمن ماء الحوض، وأما القنطرة فلا يصل إليها إلا ناجٍ، والخبر يفيد أن ممن يريد أن يرد الحوض ليشرب منه، قوم من الكفار وعصاة المسلمين، فيذادون عنه، ويطردون عنه، لأن الله قضى أن لا يغفر لهم، وأنه معذبهم، وبما أنه سوف يعذبهم، فلابد أنهم سوف يظمئون، وليس أحد يرد الحوض ويشرب منه إلا لم يظمأ أبدا، ولذلك قلت: بأن هذا الحوض يوضع في الأرض ويرد الناس عليه، قبل أن ينتقل المسلمون إلى الظلمة ليصعدوا على الجسر.